محاضرات منتدى تراث الرمضاني
التحديات القيمية التي تواجه الأمة
الحلقة الثانية
د. سالم يوسف الحسينان
ما زال حديثنا مستمرًا حول التحديات القيمية التي تواجه الأمة، وقد ذكرنا أن التحديات والصعوبات والمشكلات القيمية التي تواجه الأمة تعوقها عن القيام بدورها الدعوي والأخلاقي والتربوي بين أفرادها وبين الدول بشكل عام في هذا العصر الحديث، وذكرنا أبرز تلك التحديات وهي: ضعف الوازع الديني، والانفتاح التقني، والتقليد الأعمى، والجهل بالقيم، وغياب القدوات.
رابعًا: الجهل بالقيم
إن مما أوقع كثير من الناس فيما وقعوا فيه من معاص وفتن وانحرافات أخلاقية وقيمية، وضعف في الدين إنما هو الجهل الذي هو أكبر عدو للإنسان، وصدق من قال: “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه”، فالإنسان عندما يكون جاهلا بما يجب عليه من أمور دينه ودنياه لا يمكن أن يتصرف تصرفا صحيحا، ولا يمكن كذلك أن يعرف مواطن الخلل والزلل، فهو في هذه الحالة يتصرف حسبما يملي عليه هواه ونفسه الأمارة بالسوء.
تعريف القيم وأهميتها
تعتبر كلمة “القيم” من المصطلحات الشائعة في الاستخدام، كما أنها كثيرة الجريان على ألسنة التربويين والمصلحين، وهذا يوحي لأهمية ما ينطوي تحت لواء هذه الكلمة من معان سامية ومضامين راقية، ومعنى “القيم” في اللغة القيمة: والقيمة جمع قِيم بكسر القاف، وهي الاستقامة والاعتدال.
أمّا اصطلاحًا، فتعرف القيم بأنها مجموعة من الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية، وتجعلها متكاملة وقادرة على التفاعل الحي مع المجتمع وعلى التوافق مع أعضائه، والعمل من أجل النفس والأسرة والعقيدة”.
وبتعريف أيسر فإنَّ القيم هي مجموعة من الأخلاق الفاضلة التي اعتمدت على التربية الإسلامية في توجيه السلوك البشري، للقيام بكل عمل أو قول يدلّ على الخير. بحيث تتضمن هذه القيم أهمية كبرى في حياة الفرد والمجتمع.
أهمية القيم في حياة الفرد والمجتمع
القيم تسهم في بناء أفراد يتسمون بالسلوكيات والصفات الجيّدة مثل المثابرة على العمل والتميز، والنجاح بعيدًا عن الصفات السلبية وغير الجيدة، وبالتالي تلعب القيم دورًا هامًا في تكوين الشخصية الإنسانية ورسم أهم معالمها وفق معيار صحيح، والقيم تعطي للفرد إمكانية أداء ما هو مطلوب منه، وتمنحه القدرة على التكيف والتوافق الإيجابيين، وتحقق الرضا عن النفس للتجاوب مع الجماعة في مبادئها وعقائدها.
وكما أن للقيم دورًا هامًّا في حياة الأفراد، فلها أيضًا دور أهم في حياة الأمم والشعوب. ولا ريب أن المجتمع الإنساني، مجتمع تحكمه معايير في تعاملـــــه وعلاقاته مع الآخرين، بحيث تشكل هذه المعايير مجموعة من القيم الناظمة للأقوال والأفعال والمواقف والقرارات، والتي تظهر أهميتها من خلال:
• القيم تساعد المجتمع على مواجهة التغيرات التي تحدث فيه.
• القيم تحفظ للمجتمع بقاءه واستمراريته وتماسكه فتحدد له الأهداف ومثله الأعلى ومبادئه الثابتة والمستمرة.
• القيم تحفظ للمجتمع هويته وتميزه.
• القيم تسهم في بناء مجتمع متماسك وقوي يستطيع مواجهة التهديدات الخارجية.
• القيم تعمل على إعطاء النظم الاجتماعية أساسًا إيمانيًّا وعقليًّا يصعب زعزعته أو اقتلاعه.
• القيم تقي المجتمع من الأنانيات المفرطة والنزاعات والأهواء والشهوات الطائشة التي تضرب في عمق وحدته.
ضوابط غرس القيم
إن عملية غرس القيم تحتاج إلى تربة خصبة تنمو بها بذرة القيم الصالحة التي يتعهدها المربي لمتابعة نمو وبناء القيمة بوسائل شتى وعناية فائقة، ولكي ننجح في غرس القيم، لابد أن نضع أمام أعيننا أولويات وضوابط يجب استحضارها وتمثلها ونحن نغرس القيم في النفوس:
1- وعي المربي
وهنا لابد من توافر أمرين، أولهما امتثال المربي للقيمة المراد غرسها حتى يكون قدوة حسنة للمُرَبَّى، لأن القدوة توفر الكثير من الوقت على المربين أثناء غرس القيم، وخصوصًا لدى الآباء في تربية الأبناء ومحاولة غرس السلوكيات الجيدة فيهم، فعندما يختار الطفل القدوة الجيدة فإنه يقلدها في كل شيء.
والأمر الثاني هو أن يعي جوانب القيمة، ويمتلك المهارة الكافية لغرس القيم بالوسائل المبتكرة، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم والتعلم والقراءة بالتحديد؛ فهي تزيد من وعي المربي، وتكسبه خبرات الآخرين وتجاربهم. وبما أننا مسؤولون عمن ولينا أمرهم من أبنائنا أو تلامذتنا وجميع فلذات أكبادنا، كان لزامًا علينا أن نعي ونمتلك مهارة غرس القيم فيهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وتحضيرهم للحياة.. لذلك يجب علينا أن نزيد من وعينا القيمي والتربوي كدعاة ومربين وأساتذة وآباء وأمهات.. فالشأن التربوي والقيمي علم يتعلم ومهارة تكتسب بطرق شتى، فليس هناك غرس قيم بالفطرة في خضم هذه التحولات والمستجدات والتهديدات التي ترغب زعزعت ثوابتنا.
2- مناسبة القيمة للمرحلة العمرية
فالإنسان بتطوره ونموه تختلف أولوياته كما يختلف البناء الجسماني له، وكلما كانت القيم المستهدف غرسها مناسبة لعمره وأولوياته كان ذلك أنجح في البناء وأيسر في الغرس، وبالتالي يجب على المربي أن يميز بين كل مرحلة عمرية وأخرى من حيث أولوية غرس القيم؛ حيث كل مرحلة عمرية لها منظومة قيم تتناسب معها.
3- تعدد الوسائل
كما ذكرنا أن عملية غرس القيم تحتاج إلى وعي المربي بالدرجة الأولى ثم مناسبة القيمة للمرحلة العمرية، كذلك يحتاج غرس القيم إلى تعدد الوسائل أثناء التربية والغرس، فيحتاج المربي أيضًا إلى وسائل متنوعة ليخاطب ثلاثية الوعي البشري من المعارف والوجدان والسلوك، لا أن يخاطب المُرَبَّى بوسائل تنمي لديه الجانب المعرفي -مثلاً- فيتضخم ذلك الجانب عن أخويه، وبالتالي لا ينتج قناعة وجدانية أو سلوكًا عمليًّا للقيمة فتشوه أبعادها، ونجد أن الله تعالى قد ربط بين القيم والعبادات، ونوّع في العبادات لتتنوع وسائل تلقي القيم وغرسها.
فمثلاً، الصلاة تنهي عن الفحشاء، فإذا نجح المربي في غرس المعرفة العقلية وهذا الربط التعبدي القيمي، ثم تولد لدى المُرَبَّى الاستشعار بالصلة بين العبد وربه، وأن اللسان الذي يخاطب رب العزة في الصلاة، لا بد وأن يتنزه عن الفحش في القول والسلوك، فينتج عن ذلك دافعًا قويًّا للتمسك بالقيمة، وكذلك الحال في التقوى في الصوم، والتكافل في الزكاة، وغيرها من العبادات التي راع فيها الشارع الحكيم، الأبعاد الثلاثة للجنس البشري.
4- البيئة
إن الوسط الذي يعيش فيه المُرَبَّى، هو الأهم في هذه العملية، إذ البيئة هي بمثابة التربة التي تغرس فيها بذرة القيم، بحيث نرى -والواقع أعظم الشهود- أن للبيئة تأثيرًا كبيرًا في بلورة سلوكه وبناء الشخصية، لأن المُرَبَّى سرعان ما يتطبّع بطابع تلك الأوساط التي يتردد إليها بين الفينة والأخرى، ويكتسب صفاته ومقوّماته من عقائد وسلوكيات وأعراف وثقافات وما إلى ذلك. فكلما كانت البيئة صالحة كان ذلك أفضل للنمو السليم وبناء القيمة بشكل أيسر. ويمكن حصر أهم البيئات التي تسهم في غرس القيم بشكل فعّال فيما يلي:
أ- الأسرة: حيث إن الأسرة، هي المحضن الأساسي الذي يتلقى فيها المُرَبَّى أهم الفضائل والقيم والآداب في جو من التربية الإسلامية من الأب والأم والإخوة.
بـ- المسجد: إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي أوضح بكثير من أن يشار إليها بحديث مثل ما نعرض له، وما سأتطرق له هو من باب معرفة ولو جزء بسيط جدًّا من أثره في غرس القيم الفاضلة، والحماية من الشهوات والإغراءات الزائفة.
وما أقصد بالمسجد هنا، هو المكان المخصص للأذان وإقامة الصلوات الخمس، وإلقاء الدروس والمحاضرات والندوات والحلقات العلمية والمعرفة، وما جرى مجراها ودار في فلكها، وقد وضع المسجد باعتباره اللبنة الأولى، ونواة المجتمع الإسلامي وأهم ركائزه الثابتة على مر العصور، بحث لا يقتصر دوره على أداء الشعائر التعبدية المحضة فقط، كالصلاة والذكر والدعاء، بل يمكنه أيضًا غرس القيم في نفوس الناشئة.
جـ- المدرسة: تعتبر المدرسة مؤسسة اجتماعية أنشأها المجتمع قصد تعليم أبنائه وتربيتهم، وتزويدهم بالثقافات والتراث العلمي المعرفي، والتربية في المدرسة ليست من أجل منطلق ومنطق حر لا ضابط له، ولكن من أجل دعم نظرية الحياة للأمة، ذلك أن الأمة صاحبة الرسالة الإسلامية التي يجب أن تقوم على الصغار بالتربية والتعليم، ليكونوا ورثة صالحين ومصلحين، لهدف حياتها ولنظام مجتمعها.
ويمكن للمدرسة أن تؤدي دورها التربوي التعليمي في غرس القيم، من خلال الوظائف التي تقوم بها الجهات المسؤولة وذات الصلة المباشرة بالمتعلم (المُرَبَّى)، وهي مديرية المناهج، والإدارة التربوية، والعنصر الفعال والقلب النابض للعملية التعليمية التعلمية، ألا وهو الأستاذ.
معرفة أهمية القيم
إن معرفة أهمية القيم، ومراعاة ضوابط غرسها والتي تتمثل في وعي المربي، ومراعاة المرحلة العمرية، وتنويع الوسائل والطرق، ومراعاة البيئة، مع إعطاء كل ضابط حقه ومستحقه، سيجعلنا أمام نظام تربوي قيمي متكامل المبنى، كفيل بضمان الطريق السليم إلى مستقبل زاهر وزاخر يحفظ عقول الناشئة وقيمهم ودينهم، فتهذب الأفراد وترقى بهم، كما تجعل المجتمع وحدة مترابطة عقائديًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا.
خامسًا: غياب القدوات
من أهم التحديات القيمية التي تعاني منها مجتمعاتنا هي غياب القدوات الصالحة، فتجد أغلب الشباب الآن في كثير من البلاد الإسلامية يعيش حالة من الانفلات الأخلاقي والاستخفاف بالقيم والتقاليد، مما جعلهم أسرى لمواقع وشبكات التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت، فبعض الشباب يتخذ قدوته فنّانًا أو لاعبًا أو غير ذلك من القدوات الفاسدة، وليس الكثير من أبناء الإسلام الذي يتخذ قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم! مع أن الله عزوجل يقول في كتابه بوضوح (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
أهمية القدوة الحسنة
تلعب القدوة دورًا بالغ الأهمية في مجال التربية والتنشئة الاجتماعية الصحيحة للأبناء، والأسرة هي المعين الأول، الذي تتشكل وتتحد فيه معالم شخصية الطفل فهي التي تغرس لديه المعايير والقيم الدينية والأخلاقية التي يحكم بها على الأمور، ومدى شرعيتها وصحتها، ومن الضروري أن يكون النموذج الذي يقتدى به الطفل نموذجًا صالحًا يعبر عن تلك القيم والمعايير لا بالقول فقط أو بالدعوة والإرشاد إليها، بل يجب أن تتمثل تلك القيم في سلوك الوالدين، والملاحظ الآن افتقاد القدوة النموذجية داخل بعض الأسر وفي كثير من المجتمعات الأمر الذى ينذر بالخطر الكبير.
كيفية العلاج
- لابد من غرس مكونات قيمة حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيصير النبي صلى الله عليه وسلم للأبناء هو القدوة الحقيقية لقوله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” فينبغي معرفة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة وجدانية وسلوكية واتباع النبي صلى الله عليه وسلم من حبة الله قال الله تعالى” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم”.
- تجزئة القدوات: وهو مصطلح تربوي جديد، فالآن في العصر الحالي الأبناء لا يكون عندهم قدوات بارزة متميزة في مجال ما، فنحن يجب علينا أن نجعل لهم مثالا، مثلا قدوة في التعليم والدراسة نقول فلان، ونجعل آخر متميز مثلا بصلة الرحم والتواصل الاجتماعي، وأيضا فلان قدوة في الأمور الرياضية، فتجزئة القدوات بالمصطلح الحالي الجديد هذا مهم للأبناء وأيضا للكبار، لأنه لا نجد شخصية شاملة وكاملة من جميع الايجابيات فنستفيد من هذا الجانب المميز فيه، ونستفيد من غيرة في جانب مميز آخر وهكذا.
- تقويم سلوكنا كمربين: ففاقد الشيء لا يعطيه، قال الله تعالى” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم” فبعض المربين قد يكون سيء الخلق وهم قلة ولله الحمد، فيجب علينا نحن كمربين أن نقوم سلوكنا أولا.